نص - منيا الصعيد في جوار الكنيسة الإنجيلية - النهار اللبنانية





 عمري بين تسعة واثني عشر عاماً. كنت طفلاً أحفظ القرآن في حلقة في مسجد جمعية الفتح اﻹسلامية. المشايخ يتغيّرون كل أسابيع وأنا لا أتغيّر. أتعلم أيضاً فنون القتال وتنس الطاولة والسباحة وشيئاً من السيرة والعقيدة وعلم تزكية اﻷنفس في المسجد نفسه. أحفظ من القرآن "لكم دينكم ولي دين"، و"اقتلوهم حيث ثقفتموهم"، و"يد الله هي العليا"، وأتعلم أني سأدخل الجنة لكن كل جيراني سيدخلون النار لأنهم مسيحيون، وأني طبعاً أفضل منهم كون يدي هي العليا. يقول الشيخ إن المسلم الحق لا ينبغي أن يبدأ الذمّي بالسلام، ولا يهنئه بعيده، ولو حدث وصافحه فليجعل باطن كفّه إلى أسفل ﻷن يد الله هي العليا. وأقرأ وثيقة عمر بن الخطاب عن حريات أهل الذمة فيقول إنهم أحرار في خمرهم في بيوتهم فقط، أحرار في خنازيرهم ما داموا في بيوتهم، وإنهم لا يحاربون ويدفعون جزية.

أيّ حرية تعطيني يا سيدي عندما تأخذ من حريتي مساحاتها. كنت حراً في كل ما سبق، في كل مكان من بلدي، قبل أن ترسل جيوشك. مسألة الجزية هذه، سحقها لاحقاً ردّ زميلي القبطي في الخدمة العسكرية. سألته أما كان خيراً لك أن تنعم الآن في دفء بيتكم وتدفع جزية فقال: "وما أدافعش عن بلدي وهو أنت أجدع مني؟". تعلمت الكثير في حداثتي في المنيا.


المنيا 1994 غزوة الأقباط


معركة بين شلة يقودها أخي الأكبر ومعه أنا وعشرون من طلاب المنيا العسكرية، ضد شلة مدرسة الأقباط، عماد عزت نجم الكونغ فو المحلي، وعماد عجايبي قادة الصليبيين في تقديرنا. لا أحد يذكر السبب الوهمي للمعركة، لكن الذي يعرفه الجميع أنها كانت معركة على أديان في نفس كل من شاركوا فيها. نذكر جميعاً أنها صارت حربا تخبو وتعلو لعامين أو ثلاثة،
وينكأ ظهري إلى الآن وجع في الظهر؛ إصابة حرب بيد ماكسميلوس ربما هي سر الانزلاق في فقرات ظهري الذي يؤلمني حتى الآن. وينكأ ذاكرتي وجه ماجد نبيل هنري، عيناه المتورمتان، فكه المنكسر، وأنه اتهمني بالزور فقط ﻷشي باسم الذي أصابه من دون أن يلمحه في تحقيقات أمن الدولة. لم أضربه. كنت أحاول أن أحمي ماجد من أربعة من عصابة المنيا الثانوية العسكرية تنال منه، لكنه لم يسمع سوى اسمي فسمّاني عند الشرطة. لم أضربه ولم أش بأحد؛ كنت مرتاحا لهذا. ولا أذكر اسم أحد الآن. أذكر ماجد وصلحنا الواهن في أوله، أذكر عم نبيل هنري وزوجته، أذكر أن ماجد أصبح أول من يهنئني بالعيد، وأنا أول من يهنئه بعيد ميلاد المسيح، أذكر صوت صلوات أمّه لنا، أذكر أنني دخلت بيتهم، وهنا فقط عرفت شيئاً حقيقياً عن المسيحيين، وللمرة الأولى عرفت عن المسيحيين أنهم مثلنا مصريون. وذهبت إلى كنيسة ثم إلى أخرى، واشتريت الإنجيل وما زلت مسلماً. كتبت الشعر وقرأت الإنجيل ومقتطفات من الأدب الفرعوني، فتعلمت أن المسيحيين ليسوا سوى مصريين رفضوا التحول عن دينهم ولغتهم والكثير مما أبقوا لنا عليه منا، في وقت سلم الأغلب نفسه للدين الجديد القوي المحتمي بالجيش العرمرم.


المنيا 1992-1996


قابلت الكلاشنيكوف مع أقارب وطلقة مسدس شفافة بها خرز أزرق مع ضابط من مكافحة الارهاب قال إنها تقبض تسع أرواح في ضغطة. حسناً. في الفترة نفسها كان المسلمون في قرية أبي للمرة الأولى في حياتي وللمرة المئة في حياتهم يهدمون كنيسة يحاول المسيحيون بناءها من قرون على ما أظن وكان رجال زكي بدر وزير الداخلية الدموي يعتقلون الناس بالشبهة والخطأ وللثأر الشخصي، حتى انهم أحيانا اعتقلوا مسيحيين ملتحين بشبهة الإرهاب الإسلامي. أنا نفسي ابن الأربعة عشر عاما اعتُقلتُ لساعات لأني لم أكن أحمل هوية، مع أن الدولة لم تكن تمنح الهويات لمن هم دون السادسة عشرة، ولكن كانت لي لحية خفيفة وكنت في المنيا. المعتقل كان له ضحايا نجوم الشيخ "سوستة" الذي يطوف الحسيني أحياناً في زي مجاهد صنديد مدججاً بالجنزير والسواطير وشاذا بوجه امرأة احايين. في المناسبة كان يؤجر قريبتيه لراغبي المتعة، والشيخ طارق وخالد وابن عمهما الذي كان جارهما وقتلاه، كانوا جميعا زملاء معتقل. في الأيام نفسها استشهد محمد عبد الحميد أبو الليل في معركة بالأسلحة النارية في ميدان بالاس شارع الحسيني البحري، كان يذود عن مسجده وعن مطلوبين مختبئين فوق المسجد، جسده كان كمصفاة حين سقط من أعلى بناية "باتا"، واعتقل توأم رائع لأن أباهم آوى خلية أبو الليل في بنايته التي فيها مسجد التوحيد، منبر أمير المنيا محمد جمال. التوأم كانا دفعتي في الثانوية، حصلا عليها من المعتقل بتفوق، والآن هما طبيبان مشهوران. المعتقل كان جحيما حقيقية كما يبدو لأن احدا ممن ذهبوا لم يعد كما ذهب، وأحداً لم يخبر الحقيقة كاملة عما هناك.


المنيا 1986


البيت الذي ابتاعته أمي في جوار الكنيسة الإنجيلية كان مملوكا لأسرة مسيحية، ابنتها أسلمت، فباعوا البيت ليهجّوا. حكى الجيران أنها استمعت إلى جارها يقرأ القرآن عبر الحائط الرقيق الذي يفصل البيتين، ثم سألته أن يرفع صوته في الليالي المقبلة ففعل. بعدها تزوجت من مسلم معتدل وطبيب مرموق وله شعبية كاسحة زادت لاحقاً بالطبع بعدما تزوجا وحماها من غضبة الأهل. أسلمت فهجّ أهلها طوعاً، وجنّ جارها العاشق المسيحي عماد، وأصبح حتى مات بعد عشرين سنة مجنون الحي الرقيق، خفيف الظل، يحبه الجميع وهو يعتقد أنه يكره المسلمين. يصرح بذلك في مناسبات عدة ولا يغضب منه أحد، وخصوصاً عندما يطري أخلاق جارتنا المتحولة الاخرى إلى الإسلام، زوجة التاجر الكبير فيقول لها: "لم أسلمت انت خسارة في ولاد دين ال..."، وأي سبة كيفما يتفق، والجيران حوله مسلمون ومسيحيون يهدئون من روعه. ظل لطيفاً حتى اكتفى من هذه الأرض فتبخر. في المنيا، الذين تنصروا لا يعرفهم أحد، وأما الذين أسلموا فنجوم. الشيخ أحمد عبد الرحمن شبيه عمر عبد الرحمن وسميّه، كان ابن المدينة المتحول إلى الإسلام وكان يسكن في سكن المغتربين المملوك لجمعية الفتح الاسلامية ويدرس الطب؛ أسلم في الثانوية العامة وترك بيت أهله إلى دار المغتربين وتفوق حتى أنهى الطب ولا يعرف عنه اليوم شيء. بعدما سكنّا هناك بعامين أو أقلّ، كنت قطعت جولتي بين مساجد الجماعات والجمعيات الإسلامية؛ الدعوة السلفية في مسجد المبرة، التكفير والهجرة في مسجد أليم تحت الكوبري العالي، الجهاد في مسجد التوحيد والجماعات الإسلامية في مسجد عمر عبد الرحمن الذي دكّ على رؤوسهم ألف مرة، والأخيرون هؤلاء تحديداً، أجهل خلق الله، أميون، واجراهم على الفتوى، وفي طبيعة الحال افتكهم، عربجية وقوادون ومسجلون خطر، بويعوا على إمارات وهمية وسلحوا. خلاصة الجولة أن عند الكل دين جهاد واجب ويتراوح ما بين جهاد الأنفس وجهاد الأحزمة الناسفة.
بعدما ولّيتُ ظهري للمسجد، صار وجهي للكنيسة. أعني هذا حرفياً. الكنيسة التي يواجه برجها شرفتنا وتخاطبني أجراسها كل يوم بالرنين وبالصمت. من الشرفة نرى برجاً وجرساً ومدخلاً ولافتة "دار الثقافة"، حيث تجد مطبوعات الكنيسة ومنتجاتها اليدوية وإبداعات رسّاميها ونحّاتيها وكاسيت ترانيم غير التي نسمعها من الكنائس المنتشرة في ليل الحي، ترانيم حتى بصوت فيروز "واحبيبي". أظن هناك كنائس لأكثر من خمس طوائف في حيّنا.
نقطة الضوء الوحيدة في الحي كانت "دار الثقافة". ابتعت في الزيارة الأولى، الكتاب المقدس، لاحقاً الترانيم المدهشة التي علّمتني أن في الكنيسة فقط تسمع موسيقى مصرية قديمة حقيقية؛ لاحقاً ابتعتُ هديتي لماجد نبيل هنري. نقطة الضوء الأخرى في المنيا، كانت دير الآباء اليسوعيين حيث تقرأ الشعر والفلسفة والتاريخ وتشاهد المسرح الجديد وتحضر حفل فريق وسط البلد ونادي السينما وتتمشى في المشتل الأنيس. خافت أمي لما رأت الكتاب المقدس معي أن أتنصر. لكني لم أفعل يا أمي. فقط أحببتُ الله أكثر، وتعلمتُ أن أستعين بـ"يا أبانا" في الشدائد مع "الفاتحة"، وأفرحتني "هللويا" كلما حزنت. شيء آخر يا أمي؛ أنا أصلاً مثلكِ قبطي.


المنيا أغسطس 2014


بعد 30 يونيو على بعد 200 متر من ميدان بالاس، كنت أتابع في التلفاز بثاً مباشراً لـ"الجزيرة" لتظاهرات حاشدة رافضة للانقلاب ومؤيدة للشرعية في الميدان الخاوي نفسه الذي أنا واقف فيه أشاهد "الجزيرة" التي تذيع على الهواء تظاهرات حاشدة بالآلاف لمؤيدي المعزول. والله، ويا سبحان الله! في اليوم التالي رأيت غرباء مستأجرين يأتون إلى دكان القاضي حيث أقف، حفاة في جلاليب قروية، كل منهم معه ورقة بمئة جنيه جديدة يبتاعون مني أي شيء لصرفها؛ كانوا مستأجرين وكان هناك ملثمون وبصاصون، ورأيت أربعة يحملون مدفعاً رشاشاً ويخرقون الحشود في اتجاه مديرية الأمن، سقطت الملاءة عن المدفع المستقر على الخشبة، فسلّموا أنفسهم للناس، وأي ناس، سكان وتجار شارع الحسيني في المنيا.
في تلك الأيام عادت اللجان الشعبية وعاد حظر التجول. اللجان الشعبية فيها جرجس وعماد وخالد وعلي، يحمون الكنيسة الانجيلية والبيوت التي سكانها مسلمون، ويقبضون على لصوص ومساكين سرقوا من المحال المنهوبة طحيناً وأرزّاً وزيتاً. في تلك الأيام رأيت وطناً في عيون الناس في المنيا ينهض من سقوط وشيك ويعبر فوق آخر الألغام رشيقاً كما لو أن أحداً لم يقض أعمارا في دفن الألغام في أرواحنا! 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتاب الصفح El Libro Del Perdón

بين (عاش الهلال مع الصليب) و (الشعب يريد إسقاط الرئيس) الراية القطرية 19-05-2011

شوقي بزيع – هل فرغت قبعة الحاوي من الحيل المدهشة؟ الوطن القطرية 17-04-2011