بين (عاش الهلال مع الصليب) و (الشعب يريد إسقاط الرئيس) الراية القطرية 19-05-2011
بين (عاش الهلال مع الصليب) و (الشعب يريد إسقاط الرئيس)
فصل في الفصل بين بلاغتين
علي الدمشاوي
رئيس مؤسسة تودوسناس الثقافية – سكرتير حركة شعراء العالم بقطر
لنسلم أولاً أن بلاغتنا العربية حية تنمو في العقول و القصائد و حتى الشوارع و المقاهي العربية و أن ماء محاياتها هو تناوب دور البطولة بين عناصرها المختلفة مرورًا بعصور عشناها نحن و أسلافنا .
في المدرسة الثانوية تعلمنا أن نستظهر عن غيب هذين التعريفين للبلاغة : البلاغة أن تبلغ بالمعنى نفس السامع ، و البلاغة أن توجز فلا تخل و تطنب فلا تمل .
ثم علمنا الجرجاني أن اللغة إصطلاح أي أن المجتمع يصطلح على كون هذه المجموعة من الحروف مرتبة في ترتيب ما تعني معنى ما و لو اصطلحوا من قديم على غيره لصار هو المعنى و ضرب مثلا بحروف ال (ض / ر / ب ) فقال أن ما خلق الفرق بين معنيي كلمتي ضرب و ربض هو إصطلاح الناس .
ليس إلا الناس هم من يخلقون بلاغتهم إذن .
فبلاغة (عاش الهلال مع الصليب) التي بلغت نفوس السامعين حتى ذاعت على ألسنتهم 1919 ليست هي هي بلاغة (الشعب يريد إسقاط الرئيس) 2011 .
فبتحليل جمالي كلاسيكي سريع للجملتين تجد الأولى كناية في مجملها ، تحوي استعارة مكنية حيث شبه الهلال و الصليب بكائنين حيين يعيشان ثم حذف المشبه به و كنّى عنه باللفظ عاش و أبقى على المشبه بالإضافة لكنايتي الهلال و الصليب عن الإسلام و المسيحية.
و درءًا لشبهة الانتقائية أسوق مثلا آخر يعتمد الموسيقا الظاهرة القديمة ز هو الهتاف الثوري المصري التاريخي (الاستقلال التام أو الموت الزؤام).
أما الجملة العبقرية الثانية فهي ليست سوى حقيقة (الشعب يريد إسقاط الرئيس) إنها تقرير واقع ، جملة خبرية بامتياز عارية من الزخرف البلاغي العتيق تنوب عن جماليات اللغة كلها في التعبير عن مشاعر الملايين.
و الآن و وفقا للتعريفين الكلاسيكيين المدرجين سابقًا فأي الجملتين أبلغ لنفس السامع الحي ؟ وأيهما أوجز و لم يخل؟ بالطبع هي الأكثر رواجا على لسان ثوار يناير و من ثم من لحقهم من الثوار لأنها بلغت نفوس الناس فجرت على لسانهم .
نحن ببساطة أمام بلاغة جديدة أو بالأحرى نحن نقف أمام طور جديد للبلاغة العربية يغاير ما سبق عليه من حيث أنه أعطى بطولة الجملة للتقرير عوضًا عن التشبيه و الاستعارات و الكنايات و أدوات سابقتها و لنقل سوابقها من البلاغات و لم يتخل عن الأدوات التقليدية تمام النخلي أيضًا .
لا أدعي أن ملاحظتي ألمعية لم يسبقني لها أحد و إنما أردت أن أنبش الجذور المجتمعية لاختلاف آداب اليوم عن آداب الأمس و أن أعيد التنبيه أن المتمسك بقياس الإبداع اللغوي المعاصر بأدوات النقد العتيقة كالذي يحاول التحليق بجناحي عباس بن فرناس.
كلنا كنا شهدنا في منتدياتنا الأدبية صراعات شهيرة بين أنصار قصيدتي النثر و أنصار قصيدة التفعيلة و بين أعمدة الفريقين ثم شهدنا صراعات شبيهة بين موالي قصيدة النثر و موالي قصيدة ما بعد الحداثة ، سبق ذلك كله بصراعات أخرى شبيهة أيضًا بين أنصار كل اتجاهين أدبيين يلحق أحدهما الآخر على سلم الزمن .
في الأخير و بفضل الثورات العربية الحديثة أصبح جليًا ان المجتمع في عمومه و ياللعجب أوعى و أدرك من المثقفين و المبدعين و الشعراء فيم يخص مسألة التطور البلاغي.
المجتمع مصنع اللغة انتصر للتصالح بين البلاغات في صوغه بلاغة لا تعترف بقالب بعينه لينطق عنها غضباتها و تغزل عليه طلباتها و إنما بلاغة وليدة تصل ين تاريخها اللغوي المديد ، نتج عن ذلك هتافات شارعية بليغة كقصائد عصرها بعضها يقر الموسيقى الظاهرة و بعضها يعتمد الصورة البسيطة و بعضها و أكثرها ذيوعا لا يقدم من البلاغة القديمة شيئًا و إنما ينتصر و لأول مرة للتقرير الخبري عوضا عن كل الزخرف العتيق الذي يبدو شاذًا في هذا الزمن .
في مقابل هتافات الثورات القديمة التي كانت أيضًا كقصائد شعراء عصرها تشترط الموسيقا الظاهرة و الصور المركبة لتنطق باسم الجماهير و المجتمع.
اقرأوا قصائد شعراء اليوم اقرأوا هدى حسين و أحمد يماني و لوركا سبيتي و من عاصرهم و جدوا لي نصًا رائجًا و احدًا يعتمد الجماليات العتيقة كبطلة له ، لا شاعر ينتمي لعصره اليوم يراهن على الصورة المركبة و الموسيقا الظاهرة و لا يراهن على تغييبهما قسرًا في تقليد لسقطة شعراء النثر الشهيرة .
هل اللغة تفككت؟ و هل كان (مارتن إدجار) محقًا عندما قال أن اللغة الإنسانية بصدد التحلل لأن الناس لم يعد بوسعهم التشدق بالمصطلحات بل سيففكونها إلى مركباتها الأبسط ؟
و أحرى بجيل الأساتذة من اللغويين إزاء تطور البلاغة الثوري أن يقتدوا بفعل أندادهم من السياسيين إزاء ثورة الشعوب و يمنحوا أنفسهم برهة للتأمل قبل أن ينخرطوا في نوبة لعن غير مبررة لما قد لا يستوعبونه و يريحوننا و يريحون الكتابة من كتاباتهم النقدية التي ظلوا لعقود يلقونها علينا من صوامعهم العلية ظانين أنهم الحكماء و حماة اللغة بعدما تأكد للمجموع أن من مجمل ما تعطفوا علينا به من نظريات للنقد - إن صحت التسمية - لم يمس شعرة واحدة من رأس كتابات اليوم و أنه للأسف سقط تحت أقدام البلاغة .
البلاغة ببساطة هي الكائن المستقر على الزحف الكائن الذي لا يقبع ليتأمل و إنما يركض رشيقا على خط الزمن تلحقه أعين الراصدين و النقاد و الذين يعضهم ثبتت عيونه على نقطة على خط الزمن ليس عليها الآن سوى طيف كائن مضى كائن كان هناك حقًا لكنه مضى.
و مرة أخرى نجد أنفسنا أمام نفس التساؤل متى ننتج نقدًا عربيًا معاصراً حقيقيًا ؟ متى يستجيب الراصد البلاغي للطاريء البلاغي؟
تعليقات